بقلم: الدكتور زغلول النجار
يستهل ربنا (تبارك وتعالى) سورة الذاريات بقسم منه ـ وهو سبحانه الغني عن القسم ـ وجاء القسم بعدد من آياته الكونية على أن وعده لعباده وعد صادق، وأن دينه الذي أنزله علي فترة من الرسل، والذي أتمه في بعثة النبي والرسول الخاتم (صلي الله عليه وسلم) والذي سماه الإسلام، والذي لا يرتضي من عباده دينا سواه لهو حق واقع لاشك فيه.
ثم عاود ربنا (تبارك اسمه) القسم مرة أخري بالسماء ذات الحبك علي أن الناس مختلفون في أمر يوم الدين بين مكذب ومصدق، وأن المكذبين الذين شغلتهم الحياة الدنيا عن التفكير في مصيرهم بعد الموت يصرفون عن حقيقة هذا اليوم الرهيب، ثم تعرض الآيات لمصير كل من المكذبين والمصدقين بالآخرة، كما تعرض لعدد من صفات كل من الفريقين.
ثم تعاود السورة في سياقها الاستدلال بعدد من الآيات الكونية الأخرى في الأرض وفي الأنفس وفي الآفاق علي أن وحي الله (تعالى) إلي عباده في القرآن الكريم حق مطلق يجب علي الناس تصديقه كما يصدقون ما ينطقون هم أنفسهم به...!!!
ومن هذه الآيات الكونية التي استشهد بها الحق (تبارك وتعالي) علي صدق وحيه في آخر رسالاته وكتبه قوله (وهو أصدق القائلين): {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (الذريات:20).
فما هي آيات الله في الأرض الدالة علي طلاقة قدرته، وعظيم حكمته، وإحاطة سلطانه وعلمه؟ ما هذه الآيات التي استشهد بها (سبحانه وتعالى) ـ وهو الغني عن كل شهادة ـ علي صدق وحيه الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله؟
هذا الوحي الذي تعهد (سبحانه) بحفظه فحفظ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد بنفس اللغة التي أوحي بها (اللغة العربية)، سورة سورة، وآية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، دون أدني زيادة أو نقصان، وهذا وحده من أعظم الشهادات علي صدق القرآن الكريم وإعجازه، وعلي أنه كلام الله الخالق، وعلي صدق الصادق الأمين الذي تلقاه عن ربه، وعلي صدق نبوته ورسالته (صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين).
الدلالة اللغوية لألفاظ الآية الكريمة
(الأرض) في اللغة العربية اسم جنس للكوكب الذي نحيا عليه، تمييزا له عن بقية الكون، والذي يجمع تحت اسم السماوات أو السماء، ولفظة (الأرض) مؤنثة، والأصل أن يقال لها (أرضة) والجمع (أرضات) و(أرضون) بفتح الراء أو بتسكينها، وقد تجمع علي (أروض) و(آراض)، ولفظة (الأراضي) تستخدم علي غير قياس.
ويعبر (بالأرض) عن أسفل الشيء، كما يعبر بالسماء عن أعلاه، فكل ما سفل فهو (أرض)، وكل ما علا فهو سماء، ويقال: (أرض أريضة) أي حسنة النبت، زكية بينة الزكاء أو (الأراضة)، كما يقال
تأرض) النبت بمعني تمكن علي الأرض فكثر، و(تأرض) الجدي إذا تناول نبت(الأرض)، ويقال أيضا
الأرض النفضة) و(الأرض الرعدة) أي التي تنتفض وترتعد أثناء حدوث الهزات الأرضية والثورانات البركانية.
الأرض في القرآن الكريم
جاء ذكر الأرض في أربعمائة وواحد وستين (461) موضعا من كتاب الله، منها ما يشير إلي الأرض ككل في مقابلة السماء، ومنها ما يشير إلي اليابسة التي نحيا عليها كلها، أو إلي جزء منها، (واليابسة هي جزء من الغلاف الصخري للأرض وهي كتل القارات السبع المعروفة والجزر المحيطية العديدة)، ومنها ما يشير إلي التربة التي تغطي صخور الغلاف الصخري للأرض.
وفي هذه الآيات إشارات إلي العديد من الحقائق العلمية عن الأرض والتي يمكن تبويبها بإيجاز علي النحو التالي:
(1) آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.
(2) آيات تشير إلي شكل وحركات وأصل الأرض، منها ما يصف كروية الأرض، ومنها ما يشير إلي دورانها، ومنها ما يؤكد علي عظم مواقع النجوم منها، أو علي حقيقة اتساع الكون و(الأرض جزء منه)، أو علي بدء الكون بجرم واحد (مرحلة الرتق)، ثم انفجار ذلك الجرم الأولي (مرحلة الفتق)، أو علي بدء خلق كل من الأرض والسماء من دخان، أو علي انتشار المادة بين السماء والأرض (المادة بين الكواكب وبين النجوم وبين المجرات)، أو علي تطابق كل من السماوات والأرض (أي تطابق الكون).
(3) آية قرآنية واحدة تؤكد أن كل الحديد في كوكبنا الأرض قد أنزل إليها من السماء إنزالا حقيقيا.
(4) آية قرآنية تؤكد حقيقة أن الأرض ذات صدع، وهي من الصفات الأساسية لكوكبنا.
(5) آيات قرآنية تتحدث عن عدد من الظواهر البحرية المهمة من مثل ظلمات البحار والمحيطات (ودور الأمواج الداخلية والسطحية في تكوينها)، وتسجير بعض هذه القيعان بحرارة عالية، وتمايز المياه فيها إلي كتل متجاورة لا تختلط اختلاطا كاملا، نظرا لوجود حواجز أفقية ورأسية غير مرئية تفصل بينها، ويتأكد هذا الفصل بين الكتل المائية بصورة أوضح في حالة التقاء كل من المياه العذبة والمالحة عند مصاب الأنهار، مع وجوده بين مياه البحر الواحد أو بين مياه البحار المتصلة ببعضها البعض.
(6) آيات قرآنية تتحدث عن الجبال، منها ما يصفها بأنها أوتاد، وبذلك يصف كلا من الشكل الخارجي (الذي علي ضخامته يمثل الجزء الأصغر من الجبل) والامتداد الداخلي (الذي يشكل غالبية جسم الجبل)، كما يصف وظيفته الأساسية في تثبيت الغلاف الصخري للأرض، وفي اتزان دورانها حول محورها، وتتأكد هذه الوظيفة في اثنتين وعشرين آية أخري.
وردت بها كذلك إشارات إلي عدد من الوظائف والصفات الإضافية للجبال من مثل دورانها مع الأرض، أو تكوينها من صخور متباينة في الألوان والأشكال والهيئة. أو دورها في إنزال المطر، وتغذية الأنهار، وشق الأودية والفجاج أو في جريان السيول.
(