وبعد تكون نطق الحماية المختلفة للأرض أخذت هذه الظواهر في التضاؤل التدريجي حتي اقتصرت علي بقايا رقيقة جدا وفي مناطق محددة جدا مثل منطقتي قطبي الأرض المغناطيسيين، لتبقي شاهدة علي حقيقة أن ليل الأرض في المراحل الأولي لخلقها كان يضاء بوهج لا يقل في شدته عن نور الفجر الصادق.
وشاهدة علي رحمة الله بنا أن جعل للأرض هذا العدد الهائل من نطق الحماية المتعددة والتي بدونها تستحيل الحياة علي الأرض، وشاهدة علي حاجتنا إلي رحمة الله تعالى ورعايته في كل وقت وفي كل حين من الأخطار المحيطة بنا من كل جانب، وشاهدة علي صدق تلك الإشارة القرآنية المعجزة.
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا.
وهي حقيقة لم يدركها العلم المكتسب إلا في السنوات المتأخرة من القرن العشرين، ولم يكن لأحد من البشر إدراك لها وقت تنزل القرآن الكريم ولا لعدد من القرون بعد ذلك..!!.
وانطلاقا من هذه الحقيقة يمن علينا ربنا (تبارك وتعالى) بتبادل الليل والنهار فيقول(عز من قائل): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. (القصص:71 ـ73).
وجاء ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعين (92) مرة، منها ثلاثة وسبعون (73) مرة بلفظة الليل، ومرة واحدة بلفظة ليل، وثماني (
مرات بلفظة ليلة، وخمسة (5) مرات بلفظة ليلا، وثلاث (3) مرات بلفظة ليال، ومرة واحدة بكل من اللفظين ليلها و ليالي.
كذلك ورد ذكر النهار في القرآن الكريم سبعا وخمسين (57) مرة، منها أربعة وخمسون (54) مرة بلفظ النهار، وثلاث (3) مرات بلفظ نهارا، كما وردت ألفاظ الصبح، والإصباح والفلق ومشتقاتها بمدلول النهار في آيات أخري كثيرة، كذلك وردت كلمة اليوم أحيانا بمعني النهار.
ونعمة الله تعالى علي أهل الأرض جميعا بمحو إنارة الليل، وإبقاء إنارة النهار نعمة ما بعدها نعمة، لأنه لولا ذلك ما استقامت الحياة علي الأرض، ولا استطاع الإنسان الإحساس بالزمن، ولا التأريخ للأحداث بغير تبادل ظلام الليل مع نور النهار، ولتلاشت الحياة، ومن هنا جاءت إشارة القرآن الكريم إلي تلك الحقيقة سبقا لكافة المعارف الإنسانية.
وإن دل ذلك علي شئ فإنما يدل علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته، وعلي أن هذا النبي الخاتم (صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض، وأنه(عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم) ما كان ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي كما وصفه ربنا (تبارك وتعالى).
وإذا كان صدق القرآن الكريم جليا في إشاراته إلي بعض أشياء الكون وظواهره، فلابد أن يكون صدقه في رسالته الأساسية وهي الدين (بركائزه الأربع: العقيدة، والعبادة، والأخلاق والمعاملات) جليا كذلك.
وهنا يتضح جانب من جوانب الإعجاز في كتاب الله، وما أكثر جوانبه المعجزة ـ هو الإعجاز العلمي، وهو خطاب العصر ومنطقه، وما أحوج الأمة الإسلامية، بل ما أحوج الإنسانية كلها إلي هذا الخطاب في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه، وزمن العولمة الذي تحاول فيه القوي الكبري ـ علي ضلالها ـ فرض قيمها الدينية والأخلاقية والاجتماعية المنهارة علي دول العالم الثالث وفي زمرتها الدول الإسلامية، بحد غلبتها العلمية والتقنية، وهيمنتها الاقتصادية والعسكرية.
وقد عانت الدول الغربية، ذاتها ولا تزال من الإغراق المادي الذي دمر مجتمعاتها، وأدي إلي تحللها الأسري والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والديني، وإلي ارتفاع معدلات الجريمة، والإدمان، والانتحار، وإلي الحيود عن كل قوانين الفطرة السوية التي فطر الله خلقه عليها، وإلي العديد من المشاكل والأزمات النفسية والمظالم الاجتماعية والسياسية علي المستويين المحلي والدولي...!
وما أحوج علماء المسلمين إلي إدراك قيمة الآيات الكونية في كتاب الله فيقبلوا عليها تحقيقا علميا منهجيا دقيقا بعد فهم عميق لدلالة اللغة وضوابطها وقواعدها، ولأساليب التعبير فيها، وفهم لأسباب النزول، ومعرفة بالمأثور من تفسير الرسول (صلي الله عليه وسلم) وجهود السابقين من المفسرين، ثم تقديم ذلك الإعجاز العلمي إلي الناس كافة ـ مسلمين وغير مسلمين.مما يعد دليلا ماديا ملموسا علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وعلي أن سيدنا ونبينا محمدا (صلي الله عليه وسلم) هو خاتم أنبيائه ورسله، في غير تكلف ولا اعتساف، لأن القرآن الكريم غني عن ذلك، وهو أعز علينا وأكرم من أن نتكلف له.
وهذا المنهج في الاهتمام بالآيات الكونية في كتاب الله، وشرح الإشارات العلمية فيها من قبل المتخصصين ـ كل في حقل تخصصه ـ هو من أكثر وسائل الدعوة إلي دين الله قبولا في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه