ولتعلم آثار رحمة الله عليك فاعلم أن هذه الرياح الفائقة السرعة موجودة في الأرض فوق رأسك، والمسافة بينك وبينها خمسة أميال فقط، حيث توجد منطقة اسمها منطقة التيار النفاث. فالرياح التي تسير بسرعة مائتي ميل في الساعة على ارتفاع خمسة أميال فوق سطح البحر لو اقتربت من سطح الأرض لاختل نظام الحياة، واختل النظام الذي يسير عليه المطر.
ولو كانت المنطقة رقم ثلاثة بدلاً من المنطقة رقم واحد الموجودة على سطح الأرض لما تحرك ماء إلى داخل القارات ولظلت الأمطار فوق البحر ولمات الناس والأنعام والزرع عطشاً. فانظر إلى التدبير الحكيم في هذه الأرض.
4- سنة إنزال المطر
إن السحاب المسخر بين السماء والأرض تعادلت فيه قوة الجاذبية التي تجذبه إلى أسفل مع قوة الرفع التي ترفعه إلى أعلى، ولو استمر هذا التعادل بين القوتين لما نزلت قطرة ماء واحدة ولكن الله جل وعلا يرسل الرياح لحمل السحاب إلى ارتفاعات أكثر برودة فيزداد التكثيف ويزداد حجم القطرات ويتبارك الماء في تلك القطرات ويزداد ثقلها فتتغلب الجاذبية على قوة الرفع فينزل المطر بقدرته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57). ولكي لا ينزل الماء كتلة واحدة فقد جعل الله سنة التوتر السطحي في قطرات الماء سبباً في نزوله على شكل قطرات صغيرة حتى لا يحدث الدمار على سطح الأرض.
5- سنة جريان ماء المطر وانتشاره في الأرض
لقد جعل الله سنة تكوين الأنهار وسيلة لجريان مياه الأمطار ونشرها في الأرض إلى مساحات واسعة لتتحقق الاستفادة منها في أوسع رقعة. فالماء يجري أنهاراً على سطح الأرض وغيولاً وسيولاً منتشراً فيها كما تنتشر عروق الدماء في جسم الإنسان قال تعالى: {… أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد:17). وقال تعالى: {… وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (إبراهيم:32).
كما يجري الماء في جوف الأرض في مسالك محددة في الصخور تشبه الأنابيب فإذا ما انكسرت في جزء منها تفجرت منها العيون، فيصل نفع تلك المياه المخزونة إلى مسافات بعيدة تنشأ بسببها واحات الصحراء وغيرها. قال تعالى: {… وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (الزمر:21).
6- سنة امتصاص سطح الأرض للماء
لو أن مياه الأمطار كلها بقيت على سطح الأرض التي نزلت عليها لكونت بحيرات ومستنقعات كبيرة تفسد حياة الإنسان، فلا يتمكن من السير أو الزرع أو البناء على ذلك السطح المغمور بالماء، لكن الله جعل لسطح الأرض خاصية تسمح بنفوذ الماء وامتصاصه إلى الطبقات السفلى القريبة من السطح، حيث يجري في مسارات ومسالك ويتجمع في خزانات جوفية بعيداً عن جراثيم التعفن تاركاً سطح الأرض صالحاً للحياة عليه دون عائق من الماء. قال تعالى: {… فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ…} (المؤمنون:18).
7- سنة خزن المياه في جوف الأرض
ولو استمرت سنة نفوذ الماء إلى باطن الأرض وغوره فيها، لغاب عنا في أعماق الأرض البعيدة ولحرمنا من الانتفاع به بصفة دائمة، لكن الله جل وعلا جعل في باطن الأرض القريبة خزانات للمياه من حجر وطين تحفظها من الغور في باطنها وتجعلها قريبة من الإنسان لتمده بماء دائم. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (الملك:30).
غيث الاستسقاء
إن الله خلق الخلق وقدر المقادير وأجرى السنن لانتظام سير الكون، وضبط تعامل المخلوقات مع تلك السنن ولتكيف حياتها وفقاً لها، ولكن الذي قدر تلك السنن يستطيع أن يوجد آثارها عن طريقها أو عن طريق سنن أخرى غيرها أو بأي كيفية يريدها في أي وقت يشاء. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82).
ومن ذلك ما نعرفه من إجابة الله لدعاء المسلمين الذين يخرجون لصلاة الاستسقاء عندما يشتد الجفاف في بلادهم فيفرج الله عنهم كربهم ويجيب دعوتهم ويسوق الغيث إليهم في غضون ساعة أو ساعات، وبعضهم لا يرجع من مكان صلاة الاستسقاء إلا تحت وقع المطر في وقت يئس الناس فيه من سقوط المطر، لأن السنن المعتادة لنزوله غير متوفرة.
لكن خالق السنن سمع استغاثة الداعين ولجوء اللاجئين إليه ورأى مكانهم الذي هم فيه فساق إليهم المطر بسنن أخرى إلى مكانهم المحدد على وجه الأرض، وهو القائل سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82). والقائل سبحانه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186).
سل أباك وأمك أو أحد أقربائك وسل شيوخك العارفين برحمة ربك سميع الدعاء، سلهم عن إجابته دعوة المضطرين، وإغاثة الملهوفين، سلهم كم أصيبت أراض بالجفاف، وانعدم المطر، فخرج المسلمون كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون ربهم مستغيثين فيجيبهم وينشر رحمته عليهم. ذلك هو التطبيق العملي الذي نعرف به أن الخالق سبحانه هو سميع مجيب الدعاء وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186).
تفكروا يا أولي الألباب
علم الله أن الكائنات الحية في الأرض ستحتاج إلى الماء، وقدر وعلم أنها ستعيش على سطح الأرض، فخلق الماء وأخرجه من باطنها إلى سطحها كما قال تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات:31). وعلم أن الماء يتعفن فجعل ماء البحار يختلط بالملح حتى لا يتعفن. وعلم أن السكان في القارات بحاجة إلى الماء، فسخر الشمس لتبخير المياه وسخر الرياح لرفعه وسوقه وعلم أن ما على سطح الأرض يتضرر بنزول الماء كتلة واحدة فأنزله على شكل قطرات.
وعلم أن تركه على سطح الأرض يفسد الحياة على سطحها، ويفسد الماء بتعفنه بسبب جراثيم التعفن، فسلكه ينابيع في الأرض بعيداً عن الجراثيم ولكي لا يعيق السير على الأرض والزراعة فيها، وأجرى من تلك الأمطار أنهاراً لتنتفع به مساحات شاسعة تمر عليها تلك الأنهار. وجعل جريان الأنهار مانعاً من التعفن كما جعل الأنهار وسيلة للانتقال أيضا. وعلم حاجه الناس إلى هذا الماء فخزنه قريباً من سطح الأرض ليمدهم من العيون والآبار بماء دائم طوال العام حيث لا تتوافر الأنهار. فتلك آيات وأدلة شاهدة بأن الخالق عليم وأنه رحيم بعباده وأنه الرزاق سبحانه.
وتأمل كيف أحكمت كمية المياه التي خلقت مع الأرض مع حاجة من سيعيش عليها وكيف أحكمت سعة أسطح البحار مع مقدار الأمطار التي تحتاج إليها الأرض، وكيف أحكمت حرارة الشمس وقدرت لترفع المقادير المطلوبة من الأمطار، وكيف أُحكم توزيع الحرارة في طبقات الجو بما يسمح بتكوين السحب وإبقاء الماء دون انفلاته عن كوكب الأرض. وكيف كان الإحكام في سرعة الرياح في طبقات الجو بما يسمح بحركة الغلاف الجوي ويمنع التدمير على الأرض.
وتأمل الإحكام في هطول المطر على شكل قطرات صغيرة لا تضر ولا تدمر والإحكام لانتشار الماء في جوف الأرض ليغطي مساحات واسعة منها تهيئها لحياة الكائنات. وتأمل الإحكام في خصائص طبقات الأرض بحيث تسمح بنفوذ المياه دون أن تغور إلى أعماق بعيدة وسترى مما سبق آثار الرحمة التي تدلك على الرحيم، والقدرة التي تدلك على القدير، والقوة التي تدلك على القوي، والخبرة التي تدلك على العليم الخبير، وإجابة الدعاء التي تدلك على السميع المجيب.
وهكذا تشهد المخلوقات ببعض صفات ربها وخالقها لكل عاقل، فكل ذلك أدلة شاهدة بأنه من تقدير الله الخالق الحكيم العليم العظيم الرزاق الرحيم سبحانه