خلق الله الإنسان لحكمة ولم يخلقه عبثا إن الخالق الحكيم قد خلق الإنسان لحكمة بينها في كتابه، لكن الكافر يزعم أن الإنسان خلق عبثاً !! وهو بهذا يتهم خالقه بالعبث، سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ولو قيل للكفار إن أطباءهم يعبثون في أعمالهم لسخروا من هذا القول، وقالوا : وهل يعبث الذي يصلح الخلل في أعينكم وأفواهكم وأمعائكم وقلوبكم إن أصيبت بالمرض؟ إن أطباءنا أجل وأعلا من أن يظن بهم العبث. فنقول لهم: صدقتم، إن الذي يصلح الخلل ويعالج المرض في أعضاء الجسم لا يعبث. ولكن كيف تزعمون أن خالق العيون والأفواه والأمعاء والقلوب يعبث في خلقه؟!
إنه سبحانه أجل وأعلا من أن يظن به العبث. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (المؤمنون:115-116).
شهادة علم وظائف الأعضاء
وهذا علم وظائف الأعضاء – الذي لابد لكل طبيب أن يدرسه – يقدم الدليل المشاهد على أن كل عضو في جسم الإنسان، بل كل خلية ونسيج قد خلقه الله لحكمة محددة تختلف عن حكمة ووظيفة بقية الأعضاء والأنسجة.
كما يشهد علم وظائف الأعضاء بأن الحكمة من الخلايا والأنسجة والأعضاء مرتبطة بالكيان كله. فالخلايا تتكامل فيما بينهما لتكوين النسيج. والأنسجة تتكامل لتكوين العضو. والأعضاء تتكامل لتكوين الجهاز. والأجهزة تتكامل لتكوين الكيان الإنساني.
فعلم وظائف الأعضاء يقرر: أن الله خلق كل خلية ونسيج وعضو وجهاز في الإنسان لحكمة ووظيفة خاصة تختلف عن غيرها. وأن الله ما أحكم خلق الخلايا والأنسجة والأعضاء والأجهزة إلا من أجل أن تتكامل في وظائفها لتكوين الإنسان.. وإذن فالإنسان محكم في خلقه وتكوينه، من أجل حكمة أرادها خالقه سبحانه.
الحكمة التي خلق من أجلها الإنسان واحدة لجميع البشر
من المعلوم في علم وظائف الأعضاء أن التركيب الواحد الثابت للخلية أو النسيج أو العضو أو الجهاز يحتم وحدة وظيفته وثبوتها، والاختلاف في التركيب يؤدي إلى اختلاف الوظيفة. وبالتالي فلابد أن تكون الحكمة من خلق البشر كلهم واحدة، لأن تركيبة عيني إنسان فقير هي نفس تركيبة عيني إنسان غني، وإن تركيبة عيني رئيس هي نفس تركيبة عيني أي مرؤوس، وهي نفس تركيبة عيني عالم أو جاهل، سواء كان ذلك في زمننا الحاضر، أو في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في زمن موسى أو في زمن آدم عليهما السلام.
فالحكمة من كل جزء من أجزاء الإنسان واحدة في الجنس الإنساني بأكمله على اختلاف الزمان والمكان. كما أن التركيب الإنساني الجسدي والنفسي والروحي والعقلي واحد لم يتغير في الجنس البشري على اختلاف الزمان والمكان، والفطرة البشرية واحدة لم تتغير في بنى الإنسان. وإذن لابد أن تكون الحكمة من خلقهم واحدة ولا تتعلق بزمان أو مكان، أو جاه أو غنىً أو فقر أو علم أو جهل، وإنما تتعلق بأصل الفطرة الإنسانية والتركيب الإنساني. قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم:30).
فمن توهم أنه خلق من أجل أن يؤدي حرفة أو وظيفة فيعيش بها ولها فقد أخطأ؛ لأن وظائف الناس وحرفهم الحكومية والتجارية والصناعية والزراعية وغيرها مختلفة ومتعددة بينما خلقتهم واحدة، فلابد أن تكون هناك حكمة واحدة من خلقهم جميعاً. ولو خلق الناس لحكم متعددة، لكانت خلقتهم متعددة تبعاً لاختلاف تلك الحكم.
الحكمة من خلق الإنسان متعلقة بالدنيا والآخرة إن الحكمة من خلق الإنسان متعلقة بالدنيا والآخرة معاً، لذلك فهي تخفي على الذين يقصرون أنظارهم على الحياة الدنيا. فلقد كنا قبل مائة عام في عالم الغيب، وسنكون بعد مائة عام في عالم الغيب مرة أخرى، وكذلك الأجيال من قبلنا، ومن بعدنا تعبر على هذه الأرض ولا تدوم لها حياة عليها.
وكما عبرنا في أرحام الأمهات طوراً بعد طور حتى نزلنا في هذه الدنيا، فإننا نعبر في هذه الدنيا إلى الآخرة طوراً بعد طور من الطفولة وحتى الشيخوخة. ولا يستطيع الإنسان أن يفهم الحكمة من وجوده في طور الحياة الدنيا إذا لم يعرف الطور السابق لها وكذا اللاحق بعدها. وما سبق الحياة الدنيا غيب، وما يأتي بعدها غيب آخر، والذين قصروا أنظارهم على مرحلة الحياة الدنيا، وتوهموا للحياة البشرية أهدافاً مقصورة على الدنيا أصيبوا بالخيبة والحيرة وتحطمت كل فلسفاتهم على صخرة الموت.
فالذين زعموا أن الحكمة من خلق الإنسان هي: الحياة – العمل - المتعة واللذة - بناء الحضارة - أو الصراع من أجل الأحسن! نقول لهم: إذا كانت الحكمة من خلق الإنسان ما ذكرتم: فلم الموت بعد الحياة؟! ولم العجز عن العمل بعد القدرة، ولم الموت؟! ولم الكدر بعد المتعة، ولم الموت؟! ولم الانتكاسة إلى الأسوأ، ولم الموت؟!
وتراهم يعلنون عن حيرتهم فيقول قائلهم: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري!! فهم كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7).
إن الحكمة من خلق الإنسان في الحياة الدنيا لا تعلم إلا بمعرفة ما قبلها وما بعدها وذلك الأمر لا يعلمه إلا الله.
الحكمة من خلق الإنسان لا تعلم إلا من الخالق سبحانه إن الحكمة من أي مصنوع تكون مخفية في نفس الصانع، ولا تعلم إلا بتعليم منه، أو ممن تعلم منه.
ولقد أرسل الله رسله إلينا لتعليمنا ما نجهل، وأيدهم بالبينات والمعجزات، وخلق لنا أدوات للعلم من سمع وبصر وفؤاد لنكتسب بها العلم. فإذا تعلمنا ما غاب عنا ممن أرسلهم الله إلينا، عرفنا الهدى وخرجنا من حياة التيه والعمى التي يحياها الكافرون إلى حياة النور والهدى، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة:15-16).