والجبال أوتاداً
بقلم: الشيخ عبد المجيد الزنداني
قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}... (النبأ:6-7).
تشير الآية إلى أن الجبال أوتاد للأرض، والوتد يكون منه جزء ظاهر على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره.
بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل.
1- ويقول د. زغلول النجار: إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات.
2- ثم يقول: ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السيرجورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها.
3- وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوماً على وجه القطع أن للجبال جذوراً مغروسة في الأعماق ويمكن أن تصل إلى ما يعادل 15 مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض، وأن للجبال دوراً كبيراً في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية. هذا وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.
ويعرف الدكتور زغلول الجبال في ضوء المعلومات الحديثة فيقول إن الجبال ما هي إلا قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو جبال الجليد في الماء ولقد وصف القرآن الجبال شكلاً ووظيفة، فقال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}... (النبأ:7) .
وقال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}... (لقمان:10) وقال أيضاً {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.. (الأنبياء:31).
والجبال أوتاد بالنسبة لسطح الأرض، فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض.
وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقةٍ لزجةٍ نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.
ولقد تنبه المفسرون رحمهم الله إلى هذه المعاني فأوردوها في تفسيرهم لقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}، واليك أمثلة من ذلك:
1- قال ابن الجوزي: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} للأرض لئلا تميد.
2- وقال الزمخشري: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}: أي أرسيناها بالجبال كما يرس البيت بالأوتاد.
3- وقال القرطبي: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي لتسكن ولا تتكفأ بأهلها.
4- وقال أبو حيان: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي ثبتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد.
5- وقال الشوكاني: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرس البيت بالأوتاد.
أول الجبال خلقاً البركانية : عندما خلق الله القارات بدأت في شكل قشرةٍ صلبةٍ رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري، فأخذت تميد وتضطرب، فخلق الله الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض، ثم تعود منجذبةً إلى الأرض وتتراكم
بعضها فوق بعض مكونة الجبال، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة فتغرس فيها جذراً من مادة الجبل، الذي يكون سبباً لثبات القشرة الأرضية واتزانها.
وفي قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}... (لقمان:10) إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض.
ويجلي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكيفية، فقد روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا.. الحديث).
فتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم المبين لكيفية خلق الجبال: "فعاد بها عليها"،أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها.
أوجه الإعجاز:
إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون.
ولا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1855م.
فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرناً؟ ومن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بوظيفة الجبال، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960م؟
وهل شهد الرسول صلى الله عليه وسلم خلق الأرض وهي تميد؟ وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض؟ ألا يكفي ذلك دليلاً على أن هذا العلم وحي أنزله الله على رسوله النبي الأمي في الأمة الأمية، في العصر الذي كانت تغلب عليه الخرافة والأسطورة؟
إنها البينة العلمية الشاهدة بأن مصدر هذا القرآن هو خالق الأرض والجبال، وعالم أسرار السموات والأرض القائل: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}... (الفرقان:6).