ثالثاً: هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها، فهي قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل أمر مشتمل على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى، فهي مما أمر الله به؛ وكل أمر مشتمل على فحشاء أو منكر أو بغي، فهي مما نهى الله عنه.
وبهذه الآية يُعلم حُسْن ما أمر الله به، وقُبْح ما نهى عنه، وبها يُعتبر ما عند الناس من الأقوال والأفعال، وترد إليها سائر الأحوال .
رابعاً: أن (الْعَدْلِ) في الآية أصل جامع للحقوق الشخصية والحقوق العامة، فالمسلم مأمور بالعدل في نفسه، وذلك بتزكيتها والارتقاء بها نحو كل ما هو خير وفضيلة؛ ومأمور بالعدل في المعاملة مع بني جنسه معاشرة ومخالطة، وذلك في الأقوال والأفعال، وفيما هو مادي كالأموال، وفيما هو معنوي كالنصح وحقوق الأخوة الإسلامية والإنسانية؛ ومأمور قبل هذا وذاك بالعدل في المعاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه .
خامساً: خص سبحانه إيتاء المال إلى ذي القربى بالذكر من بين جنس العدل وجنس الإحسان؛ تنبيهاً للمؤمنين بأن القريب أحق بالإنصاف من غيره؛ وذلك أنهم في الجاهلية كانوا يصرفون معظم إحسانهم إلى الأبعدين، طلباً للسمعة والذكر الحسن، ولم يزل هذا الخلق متفشياً في الناس حتى يومهم هذا، حيث لا يكترثون بالأقربين، فجاءت الآية على ما رأيت تنبيهاً لهذا الأمر .
سادساً: عطف (الْبَغْيِ) على المنكر في الآية مع أنه داخل في المنكر، من باب التنبيه عليه اهتماماً باجتنابه، قال ابن عاشور : " وخص الله بالذكر نوعاً من الفحشاء والمنكر، وهو البغي اهتماماً بالنهي عنه، وسداً لذريعة وقوعه؛ لأن النفوس تنساق إليه بدافع الغضب، وتغفل عما يشمله من النهي من عموم الفحشاء بسبب فشوه بين الناس؛ وذلك أن العرب كانوا أهل بأس وشجاعة وإباء، فكان يكثر فيهم البغي على الغير، إذا لقي المعجب بنفسه من أحد شيئاً يكرهه أو معاملة يعدها هضيمة وتقصيراً في تعظيمه " .
سابعاً: أمرت الآية بأمور ثلاثة: (الْعَدْلِ)، و(الإِحْسَانِ)، و(وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى)؛ ونهت عن أمور ثلاث: (الْفَحْشَاء) و(الْمُنكَرِ) و(الْبَغْيِ)، ثم إن المأمورات الثلاثة قد جاء الأمر بكل واحد منها على انفراد؛ وذلك في قوله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة:
، وقوله سبحانه: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195)، وقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (الإسراء:26) .
ومن الآيات التي جمع الله فيها بين الأمر بالعدل والإحسان قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} (النحل:126)، فالمعاقبة على العقاب عدل، والصبر على العقاب إحسان. ومثله قوله سبحانه: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى:40)، فالمجازاة عن السيئة عدل، والعفو عنها إحسان .
ومن الآيات التي جمع فيها سبحانه النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام:151)، و(المنكر) و(البغي) وان لم يصرح بهما في هذه الآية، فهو داخل بعموم لفظ (الفواحش) .
ثامناً: قد يقول قائل: إن ختام الآية لا يناسب مطلعها؛ وذلك أن الآية خُتمت بـ (الوعظ)، وذلك قوله سبحانه: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، بينما جاء مطلعها بالأمر والنهي، والمعروف أن (الوعظ) يكون بالترغيب والترهيب، لا بالأمر والنهي؟
أجاب الشنقيطي على هذا الملحظ بأن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه؛ فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله.
وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه، فحملهم دافع الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفاً وطمعاً؛ لذلك قيل: الخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد .
فإذا انعطفنا على الأحاديث المروية المتعلقة بهذه الآية، وجدنا من ذلك ما يلي:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)، رواه الترمذي و ابن ماجه ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح. فالحديث يتعلق بالنهي عن البغي .
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق، ويكره سفسافها) رواه عبد الرزاق و ابن أبي شيبة وغيرهما. والحديث يبين ما له علاقة بالإحسان من معالي الأخلاق، وما له علاقة بالمنكر من سفساف الأمور .
- وعن علي رضي الله عنه، أنه مرَّ على قوم يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أوما كفاكم الله في كتابه إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، فـ(الْعَدْلِ): الإنصاف، و(الإِحْسَانِ): التفضل، فما بعد هذا ؟ ذكره في "كنـز العمال"، وقال: رواه ابن النجار .
- وعن الحسن البصري قال: (إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه)، رواه البيهقي في "شعب الإيمان" .
أخيرا: روي أن جماعة اشتكت إلى أبي جعفر المنصور واليها، فأقام الوالي الحجة عليها، وغلبها بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم، ولا كثير جور، فقام فتى من القوم، فقال: يا أمير المؤمنين! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، وإن والينا عدل بيننا، ولكنه لم يحسن، فعجب أبو جعفر من إصابة الفتى، وعزل الوالي